اخبار ليل ونهار. بالصور.. نفق الحياة.. قصة اغرب من الخيال انقذت سراييفو من الموت. تمكنت حالة اليأس من قلوب نصف مليون بوسني محاصر من أي تدخل دولي ينهي معاناتهم وكأن عليهم الاستسلام أو الموت البطيء، فقد كان الطعام القليل يأتيهم في طرود مواد غذائية تلقى من السماء، ولم يدر بخلد المدينة أن الفرج سيأتي بصورة أخرى من تحت الأرض.
“مرحبا بكم في جهنم” عبارة كانت مكتوبة على جدار في سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك لخصت حال المدينة تحت أطول حصار في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية الذي بدأته القوات الصربية في أبريل/نيسان 1992.
ونقلت وكالات الأنباء حينها مشاهد لنساء يلتقطن أعشابا خضراء لا تعرف ماهيتها، وعجائز يمضين حاملات جذوع الأشجار إلى بيوتهن لتدفئتها، وأطفال بوجوه شاحبة لقلة الغذاء، وشوارع خاوية من السيارات لانعدام الوقود.
سيطر الصرب على الجبال المحيطة بسراييفو، مما أتاح لهم المراقبة الدقيقة لكل حركة تتم فيها، فكان السكان يتعرضون لإطلاق النار بكثافة عندما يحاولون التسلل إلى خارجها عبر مدرج مطار سراييفو الفاصل بين أقرب منطقتين يسيطر عليهما الجيش البوسني (دوبرينيا وبوتمير) فقتل حوالي خمسمئة بوسني وهم يحاولون عبور المدرج ليكونوا ضمن 11 ألفا و541 شخصا ماتوا نتيجة الحصار.
بينما كان راشد زولراك مساعد قائد الفرقة الأولى في الجيش البوسني يزحف على مدرج المطار تحت وابل القصف تساءل في إحدى لحظات التوقف الاجبارية “لم لا يكون لدينا نفق تحت أرض هذا المدرج فننجو وتنجو المدينة؟”.
كان حفر النفق علامة فاصلة في تاريخ البوسنة وصمود مقاوميها، تحولت قصة سراييفو من حكاية معاناة لأسطورة تحدٍ عبر خلالها الرئيس البوسني آنذاك علي عزت بيغوفيتش، وخرج إلى العالم ليطالب بحقوق المسلمين البشناق، وتمكن كثير من الصحفيين من دخول المدينة ليشاهدوا بأنفسهم ما يحدث وينقلوه، وحين انتهت الحرب توقفت الحاجة له، فتحول بيت كولار وجزء النفق تحته لمتحف يحكي قصة انتصار الإرادة بأبسط الإمكانيات.
عرض زولراك الفكرة على عدة مهندسين اعتبروا الفكرة مستحيلة لظروف الحرب وطبيعة الأرض، وذلك قبل أن يقابل المهندس نجاد برانكوفيتش ويخبره بأنها ممكنة التحقيق، فأصدر زولراك أمر البدء بمشروع حفر النفق في 22 ديسمبر/كانون الأول 1992، وبدأ التحضير لتنفيذه بسرية تامة.
“على بعد خمسمئة متر عن خط الجبهة كان يقع بيتي، تعرض لمئات القذائف واحترق مرة، لكنا كنا نرممه قدر ما نستطيع، حتى زارنا باقر عزت بيغوفيتش والمهندس برانكوفيتش، وأخبرانا أن البيت مناسب لمشروع حفر نفق تحته، ليكون رئة الحياة لأهل سراييفو”.
هذه بداية قصة “نفق الحياة” كما يرويها بايرو كولار صاحب المنزل الذي امتلأت واجهته بآثار ضربات القذائف والذي تقع بداية النفق أسفله في منطقة بوتمير.
ويستذكر كولار تلك الأيام بقوله “كان العمل يجري على مدار الساعة، وبدأ الحفر في نهاية مارس/آذار 1993، وعمل في حفره 260 متطوعا على أربع دفعات في ظروف عمل شبه مستحيلة، فالمكان تحت مراقبة الجيش الصربي بالكامل، فكان العمال يتعمدون المجيء فرادى حتى لا يلفتوا الانتباه للمكان، ولم يمنع هذا من تعرضه للقصف المستمر، وقتل أحد العاملين وأصيب آخرون”.
ويضيف “في تلك الظروف لم يكن بإمكاننا إدخال معدات حديثة للحفر، كنا نحفر بالمجاريف والمعاول فقط، وكنا ننقل تراب الحفر في أكياس بالليل حتى لا نلفت الأنظار”.
وفضلا عن كل ما سبق، يقول كولار “كانت الأمطار الغزيرة المتسربة إلى داخل النفق معيقة لعملية الحفر، فكنا نضطر لإخراجها يدويا بالدلاء، واستعنا بقناديل الزيت للإضاءة أثناء الحفر، فكنا نخرج بعد انتهاء عملنا ووجوهنا سوداء من هبابها”.
وتحدثت شيدا والدة كولار عن دورها في مشروع إنقاذ سكان المدينة “كنت أعد الطعام للعاملين في الحفر، كانوا يحبون فطائر البطاطا التي أصنعها، ويتناولون طعامهم في فناء البيت حتى سقطت قذيفة وهم هناك، فصاروا يتناولون طعامهم داخل النفق، كنت ألمحهم منهكين، فهم يحفرون في مكان لا هواء نقيا فيه، وكل مجموعة يفترض منها أن تنجز حفر متر من النفق الذي بلغ طوله 720 مترا”.
كان الحفر يتم من طرفي النفق، ولتحديد مسار الحفر بدقة اضطر المهندسون المشرفون لقطع المدرج تسللا وتعرض بعضهم للإصابة نتيجة ذلك، وعند مرحلة متقدمة تمت الاستعانة بعمال المناجم لخبرتهم فتطور سير العمل، وفي الثلاثين من يوليو/تموز من 1993 كانت لحظة لا تصدق حين التقى الحفارون من الجهتين فاحتفلوا بإنجازهم.
كان توقيت إنجاز النفق منقذا للموقف السياسي للمقاومة البوسنية، فقد كان جبل إيغمان الإستراتيجي الواقع جنوب غرب المدينة على وشك السقوط، وفتح إتمام النفق الطريق لتدفق المقاتلين عبره من الفرقة الأولى لدعم الفرقة الخامسة في معركتها الطاحنة لمنع تقدم القوات الصربية، فتم إنقاذ الجبل، وتغير مجرى الصراع في البوسنة كلها، وبدأ تدفق المساعدات إلى المدينة المحاصرة.
وعن تلك الفترة يقول مراد العابد الموظف في جمعية خيرية “عبرت النفق حوالي مئتي مرة، كنت بنفسي أوصل المساعدات الغذائية لداخل سراييفو، وسرعان ما لاحظت انخفاض الأسعار، فكيلو السكر مثلا الذي وصل لسبعين ماركا أصبح بعشرين، وعادت السيارات تسير في المدينة لأن الوقود أصبح متوفرا، وارتفعت معنويات الناس”.
ويستدرك “لكن لم يخل المرور خلال النفق من خطورة، فالشخص يسير في ممر ضيق وعلى جانبه كابل يوصل الكهرباء لداخل المدينة، ومن جانبه الآخر أنبوب نفط، في إحدى المرات وحينما وصلت لمنتصف النفق أجبرت على العودة لأن قوات الصرب قصفت مدخل النفق ومات 28 شخصا من الذين كانوا ينتظرون الدخول إليه”.