هل تربي ابنائك “على مزاجك”

التربية العشوائية هي أن تربي أبنائك “على مزاجك”، أو وفقا لما تربيت أنت عليه، وفي الغالب هي مزيج بين الاثنين، فالأزواج الجدد غالبا ما يتسامرون حول الأسماء التي يودون منحها لأطفالهم. تحكي الزوجة لزوجها عن مدى حبها للأولاد وأنها تود أن ترزق بولد يشبه أباه لأنها تحبه كثيرا، أما الزوج فيحدث زوجته عن أمنيته في أن يرزقه الله بابنة، لأن البنات أحن على الآباء من الصبيان.. ثم إن البنت قد تدخل أباها الجنة إذا أحسن تربيتها.. لكن هل يتحدث الوالدان عن طريقة تربية الأبناء؟ وهل يأتي الزوج بكتاب عن تربية الأبناء كي تقرأه الأم قبل وضعها..
لماذا لا نطلع على كتالوج التربية قبل الزواج وقبل الحمل أو حتى قبل الوضع؟ فنحن نذهب للطبيب عندما نعاني ألما، وإلى الطبيب النفسي عندما تنتابنا مشكلات نفسية، لكننا وللأسف لا نتبع تلك القاعدة التي نرددها ليل نهار: “الوقاية خير من العلاج”.
فتلك المقولة لا تتعدى طرف اللسان، ولا نحاول أبدا أن نطبقها إلا بعد أن تقع الكارثة.
أما بالنسبة للمصطلحات الخاصة بالتربية العشوائية والتربية المنظمة والتربية العلمية، فهي في حقيقة الأمر قد تكون مصطلحات متعارف عليها في مجتمعاتنا بالاسم، ولكننا نراها رأي العين عمليا في بعض الأسر، وأكثرها على الأغلب “التربية العشوائية”، وبالرغم من اختلافي مع التربية العشوائية – رغم أنها الأكثر انتشارا- إلا أنني لست مع التربية العلمية أيضا، لأن أنجح طريقة في التربية هي “التربية الناجحة أو الفعالة”، ولأن هذا المصطلح كبير ومطاط فهناك آباء يرون أن النجاح هو إلحاق أبنائهم بمدارس أجنبية تلبي لهم كل احتياجاتهم التربوية والتعليمية، وهناك آباء يرون أن النجاح هو نجاح الدراسة.. وهناك من يرون أن النجاح هو أن يحصل أبناؤهم على ميداليات وشهادات تقدير في الرياضة التي يلعبونها.
إن التربية الناجحة الصحيحة هي تلك التي نراها في حياة نبينا الكريم (صلى الله عليه وسلم) في مواقفه الحياتية مع الصحابة، فهذا شاب يسـتأذنه في الزنا، وهذا غلام يده تطيش في الطعام.. وهذا أعرابي يبول في المسجد.. وهؤلاء الرماة تركوا أماكنهم في غزوة أحد.. في كل موقف من هذه المواقف كان نبينا الكريم يتواصل ويحتوي، يوجه تارة وينبه تارة ويعاتب تارة أخرى، ولا ينسى أبدا أن يشجع ويحفز. تلك هي التربية الناجحة.. تربية القدوة وتربية المواقف، فلا نحن تركنا الحبل على الغارب فأصبحت تربيتنا عشوائية بلا هدف، ولا نحن جعلناها جامدة فأصبحت علمية بحتة خالية من أي مشاعر.
والتربية الناجحة لا تتأتي بالاطلاع على الكتب العلمية أو الدورات التربوية فقط، ولا تتأتي بالتعنيف والضرب، إنما تأتي بالتواصل الحميم مع الأبناء، هذا التواصل الذي يحوي بين طياته الرفق في بعض الأمور والحسم في أمور أخرى.. تأتي تلك التربية بالتوجيه السليم في الوقت المناسب، لن تأتي تلك التربية إلا من أب وأم واعيين لدورهما جيدا.. يمسكان العصا من المنتصف، مشاعر حب ومودة وتوجيه وحزم في آن واحد.. وأخيرا فلابد أن يعلم جميع الآباء أن التربية الناجحة تحتاج إلى جهد ووقت وصبر.
تعريفات هامة
الأخصائية النفسية: إن التربية العشوائية هي تربية تلقائية لا تركيز فيها إلا على سد الاحتياجات الأساسية بشكل كبير من طعام، وشراب، وملابس، وتعليم قدر الإمكان، وغيره من الأساسيات، يكون فيها الأب والأم في حالة دأب على تلبية كل المطالب بحب كبير للأبناء ناتج عن طبيعة فهمهم للمسئولية تجاه الأبناء، والمتمثلة من وجهة نظرهم في تلك الأساسيات، ومنها أن الوالديّة عطاء وتضحية؛ لذلك فإن هذا النوع من التربية ينتج لنا أبناءً حسب ما تجود به الظروف المحيطة.. فقد يكون مساندا لتلك التربية العشوائية مناخ صحي وصحبة جيدة، فتكون شخصيات الأبناء في حالة من التكيف الجيد مع العلاقات الخاصة بالمجتمع، والذات، والمستقبل.
أما إذا كان المناخ المصاحب لهذه التربية غير صحي، بالإضافة إلى صحبة السوء وضعف السلطة الوالديّة – حيث إن هذا النوع من التربية يعتمد على عطاء الأبوين وحبهما – فإنه قد ينحرف الأبناء ولكن بمستويات متفاوتة حسب الخبرات والظروف.
إن التربية العشوائية توفر عنصر مهم جدا من عناصر الحاجات الأولية للتربية، ألا وهو الحب والرعاية التي توصل للابن رسالة مهمة جدا له في الحياة، وهي أنه شخص محبوب ويستحق الاهتمام، فيثق الابن في نفسه رغم غياب الرعاية النفسية المتخصصة في التعامل مع مراحل العمر المختلفة للأبناء، وتتوقف بشكل كبير على الوالدين وفهمهم للتربية ونظرتهم لها، فنجد مثلا نماذج مثل طه حسين، وزويل، والشعراوي، أبناء لتلك التربية.. وفي المقابل نجد “التوربيني”، وأطفال الشوارع هم نتاج لنفس التربية التي تتوقف في كل الأحوال على طبيعة فهم وإدراك الوالدين للتربية من وجهة نظرهم.. ويمكن القول أن التربية العشوائية كالبطيخة “ياصابت ياخابت” (أي: أصابت أو خابت).
أما بالنسبة لنوع التربية الآخر المعروف بالتربية “النفسية”، والتي يتعامل فيها الآباء بحرص شديد وفقا للتعامل السليم من الناحية النفسية ومواجهة مشكلات الأبناء، فإن هذا النوع من التربية قد وجد في المستويات الاجتماعية العليا، وغالبًا ما يكون الوالدان على درجة ثقافية جيدة جدا ويتبعون كل ما يشير له علماء النفس في التربية، وهي تنتج لنا أبناء ناجحين على المستويات العلمية والاجتماعية، ولكنها تفتقر لدرجة كبيرة نسبيًا للوجدان والعاطفة، فنجد الأبناء يتعاملون مع كل شيء، سواء أنفسهم أو علاقاتهم الاجتماعية أو الدراسية أو غيره، وفقا لكتالوج “ما يجب أن تكون عليه الأمور”، والذي يعرفونه جيدا وكأنهم آلات تفتقر للمرونة، وهؤلاء الأبناء يكونون على درجة كبيرة من الحذر والحفاظ على ارستقراطية العلاقات.
أما التربية “المتوازنة” فهي فعلا تلك التربية التي تأخذ من مميزات كل نوع من أنواع التربية وتتفادى عيوبها قدر الإمكان، فتوازن بين العطاء والتدليل، وبين القسوة والحزم، وبين السيكولوجية والوجدان، في إطار شامل للدين ودرجة مقبولة من المرونة التي تسمح ببناء شخصية الابن بشكل سوي قدر الإمكان، والتي توفر عنصر الاحترام والمصداقية والمرجعية الناضجة.