اخبار ليل ونهار – ظاهرة شيطانية، انتشرت في طبقات المجتمع، وفي أسواقنا، وشوارعنا، ودوائرنا، وبيوتنا، بل حتى في مساجدنا، هذه الظاهرة تؤدِّي إلى سلوك غير محمود، تؤدي إلى هدم البيوت، وقطع المودَّة بين المسلمين.
هذه الظاهرة حذَّرَ منها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أصحابَه الكِرام، وجعل ثواب المبتعد عنها الجنة، هذه الظاهرة قال عنها الإمام علي – رضي الله عنه -: “أول هذه الظاهرة جنون، وآخرها ندم”، فهل عرفتَ – أخي المسلم – هذه الظاهرة؟ إنَّها الغضب.
هذا رجل اسمه جَارِيَةُ بن قُدَامَةَ، جاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وقال له: يا رسول الله، قلْ لي قَوْلاً وأَقْلِلْ عَلَيَّ؛ لَعَلِّي أَعْقِلُهُ؟ قَالَ – صلى الله عليه وسلم -: ((لا تَغْضَبْ))، إياك أن تتصف بهذه الصفة الشيطانية، فَرَدَّدَ مِرَارًا، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول له: ((لا تَغْضَبْ))؛ رواه أحمد.
انظر – أخي المسلم – إلى هذه الوصية الغالية التي نطق بها أشرفُ فمٍ، وهو فَمُ الحبيب محمد – صلى الله عليه وسلم – وَصِيَّة لم يُرِدْ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – بها أن تكون “لجارية” فقط، لا، بل أراد أن تكون لكل المسلمين على امتداد العصور، جيلاً بعد جيل، حتى يَرِث الله الأرض ومَن عليها، بل اسمع إلى أبي الدرداء، وهو يقول: قلتُ: يا رسول الله، دُلَّنِي على عمل يدخلني الجنةَ، قال: ((لا تَغْضَبْ، ولكَ الجنة)) . رواه الطبراني.
ولو تصفَّحت كتاب الله – تعالى – ستجد أن الله – تعالى – امتدح عباده المؤمنين الذين يَملكون أنفسهم عند الغضب، ويغفرون، ويصفحون، ويَحْلُمون، ويعفون – بقوله – تعالى -: ﴿ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾ [الشورى : 37]، وقال – تعالى -: ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134].
وقال – صلى الله عليه وسلم – مُبينًا أنَّ الرجل الشديد، والفارس الشجاع ليس هو الذي يَصْرَعُ الرجالَ ولا يَصْرَعونه، ولكنَّ الشديدَ هو الذي يَملك نفسه عند الغضب، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((ليس الشديد بالصُّرَعَة، إنما الشديد الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ)) . متفق عليه.
وقال ابن عباس – رضي الله عنهما – في تفسير قوله – تعالى -: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [فصلت : 34]، قال: “الصبر عند الغضب، والعفوُ عند الإساءة، فإذا فعلوا عصمهم الله، وخضع لهم عدوُّهم”، وقال عروة بن الزبير – رضي الله عنهما -: “مكتوبٌ في الحِكَم: يا داود إيَّاك وشدةَ الغضب، فإن شدةَ الغضب مفسدة لفؤاد الحكيم”.
بالله عليكم يا مسلمون، كم من مسلم اليوم بسبب لحظة غضب هَدَمَ أُسرته، وشتت شملها! وكم من مسلم بسبب غضبه هدم كل عناصر الودِّ والصداقة مع أصحابه! وكم من مسلم بسبب الغضب لَعَنَ والديه، وتلفَّظ عليهما بأشنع عبارة تَخرج من لسانه! كم من شخص بسبب لحظة الغضب تنكَّر لمن أسدى إليه معروفًا، وصنع له جميلا!
في ذات يوم، وبينما رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوزِّع الغنائم على المسلمين، يأتيه أعرابيٌّ فيخترق المجلس، ويقول للنبي – صلى الله عليه وسلم -: “زِدْني يا محمد، فليس المال مالك، ولا مالك أبيك”، فتبسَّم النبي – صلى الله عليه وسلم – وقال: ((صدقتَ؛ إنه مال الله)).
وتأمَّل معي، أعرابي يقف أمام النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول له: “أعطني المال، فالمال ليس مالك، وليس مال أبيك”، والنبي صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، الذي أكرمه الله بالرسالة، وعصمه من الزَّلل، ماذا تظنون أنه يفعل به؟ والله، لو يعلم هذا الأعرابي وغيره أنَّ عاقبة الاعتداء على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هي الإعدام أو السجن أو العذاب الأليم، لَمَا تجرَّأ على فِعْل ذلك، ولكنهم عرفوه صاحب القلب الرحيم، صاحب القلب المملوء بالرحمة والشفقة على المسلمين.
فالنبي – صلى الله عليه وسلم – لم يَحْقِد على هذا الأعرابي الفظِّ، الذي كان جافيًا في عباراته، بل قال له النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((صدقتَ يا أخا العرب؛ إنه مال الله))، وزاده عطاءً ، سيدنا عمر كان واقفًا، فقال: يا رسول الله، دَعْنِي أضرب عنق هذا الأعرابي، فهذا الإنسان تجاوز حدَّه، فقال – صلى الله عليه وسلم -: ((يا عمر، دعه؛ فإن لصاحبِ الحقِّ مقالا)).
تقول أم سَلَمَة – رضي الله عنها -: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في بيتي، وكان بيده سواك، فدعا وَصِيفَة؛ أي: خادمة، فلم ترد، حتى استبان الغضبُ في وجهه، وخرجت أم سَلَمَة إلى الجمرات، فوجدت الوصيفة وهي تلعب ببهيمة، فقالت: أراكِ تلعبين بهذه البهيمة ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – يدعوكِ؟ فقالت: لا والذي بعثكَ بالحقِّ ما سمعتك، فماذا فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – هل سبَّها أو شتمها؟ هل تطاولَ عليها بالكلام السيِّئ؟ هل ضربها؟ لا، بل قال لها – صلى الله عليه وسلم -: ((لولا خشية القَوَد (القصاص)، لأوجعتك بهذا السواك)) . رواه أبو يعلى بأسانيدَ أحدها جيِّد.
كلمات ذهبية تخرج من صاحب قلبٍ كلُّه عفوٌ وتسامح وتجاوز عن عثرات الآخرين، من قلب يخشى الله، فأين المسلم من هذا الموقف العظيم؟! أين من يتخلَّق بأخلاق رسول الله في هذه المواقف؟
من المسلمين اليوم من إذا أخطأت معه زوجته في أيِّ أمر من الأمور، سواء تأخَّرت عليه في طعامه أو شرابه، أو أوصاها بأمر ونَسِيَت هذا الأمر، فإنَّه يبدأ بالسبِّ والشتم، ويتكلم بكلام فيه اعتراض على الله، وربَّما وصل الحال به إلى طلاق زوجته وهَدْم بيته.
أنا أقول لهذا المسلم: إن هذه التصرُّفات ليست من أخلاق الإسلام، ليست من أخلاق النبي – صلى الله عليه وسلم – نبيُّنا العظيم لم يكن فاحشًا، ولا متفحِّشًا، ولم يتطاول على الناس، ولم يقابل السيئة بالسيئة، بل كان يعفو ويصفح، بل عُرِف من سيرته الثابتة – صلى الله عليه وسلم – أنه لم يضرب امرأة قطُّ، بل لم يضرب خادمًا ولا دابة في حياته، فيا مَن تدَّعي أنك مسلم، ومُتبع لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – هذه هي أخلاق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأين أنت منها؟
بل تعالَ، وانظر إلى أصحاب السيارات، وخاصة سيارات الأُجرة، ترى الغضب عندهم لأبسط الأمور التي تجري بينهم أثناءَ سيرهم في الشارع من السُّرعة، وعدم إعطاء أحدهم الطريق للآخر، ومباشرةً تسمعُ السبَّ والشتم واللعن، وربَّما أوقفوا سياراتهم وسط الشارع، وراحوا يتشاجرون.
أنا أقول لأصحاب السيارات، وخاصة سيارات الأُجرة: الذي يريد أن يعيشَ – كما يقولون – لا بُدَّ له أن يتحمَّل، وأن يتركَ الغضب جانبًا، وعليه أن يعوِّد لسانَه على الكلمة الطيبة، وإلا لن يستطيع أن يعمل، إضافةً إلى الذنوب التي سيحملها.
أخي السائق، اسمع إلى هذه الحادثة، وتعلَّمْ منها ما ينفعك في الدنيا والآخرة:
ذات ليلة خرج الخليفةُ عمر بن عبدالعزيز؛ ليتفقَّد أحوال رَعِيَّته، وكان في صحبته شرطيٌّ، فدخلا مسجدًا، وكان المسجد مُظلمًا، فتعثَّر عمر برَجُلٍ نائم، فرفع الرجل رأسه وقال له: أمجنون أنت؟ فقال عمر: لا، وأراد الشرطيُّ أن يضربَ الرجل، فقال له عمر: لا تفعل، إنما سألني: أمجنون أنت؟ فقلت له: لا.
فقد سبق حِلْم الخليفة غضبَه، فتقبَّلَ ببساطة أن يصفَه رجلٌ من عامة الناس بالجنون، ولم يدفعه سلطانه وقوته إلى البطش به.
فأين أنت من هذه الأخلاق التي تبعدك عن المشكلات والنزاعات؟
كانت جاريةٌ تصبُّ الماء على يدي جعفر الصادق – رحمه الله – فوقع الإبريقُ من يدها، فانتثر الماء عليه، فاشتد غضبُه، فقالت له: يا مولاي: والكاظمين الغيظ، قال: كظمتُ غيظي، قالت: والعافين عن الناس، قال: عفوتُ عنك، قالت: والله يُحب المحسنين، قال: أنتِ حرَّة، أين هذه الأخلاق في دُنيا اليوم؟!
طرق علاج الغضب :
العلاج الأولى: الاستعاذة بالله من الشيطان:
واسمع إلى سيدنا سليمان بن صُرَدٍ – رضي الله عنه – قال: كنتُ جالسًا مع النبي – صلى الله عليه وسلم – ورجلان يَسْتَبَّانِ، وأحدهما قدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، وانْتَفَخَتْ أوْدَاجُهُ: (هي ما أحاط بالعُنق من العروق التي يقطعها الذابح)، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأَعْلَمُ كلمةً لو قالها، لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعُوذ بالله من الشيطان الرجيم، ذهبَ عَنه ما يَجِدُ))، فقالوا له: إن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((تَعَوَّذْ بالله من الشيطان الرجيم)) . متفق عليه.
العلاج الثاني: السكوت:
فعن ابن عباس عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((عَلِّمُوا وَيَسِّرُوا، ولا تُعَسِّرُوا، وإذا غَضِبَ أحدُكم، فَلْيَسْكُتْ)) . رواه أحمد.
لأن الإنسان إذا تكلم وهو غضبان، فإنه سوف يسب ويشتم، وربَّما يكفر بالله – تعالى – لذلك أمرنا رسولنا – صلى الله عليه وسلم – بالسكوت.
العلاج الثالث: تغيير الهيئة:
فعن أبى ذر – رضي الله عنه – قال: إنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قال لنا: ((إذا غَضِبَ أحدُكم وهو قائمٌ، فليجْلِسْ، فإنْ ذَهَبَ عنه الغضبُ، وإلاَّ فَلْيضطجِعْ)).
العلاج الرابع: الوضوء:
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الغضبَ من الشيطان، وإنَّ الشيطان خُلِقَ من النارِ، وإنما تُطْفَأُ النارُ بالماء، فإذا غَضِبَ أحدُكم، فَلْيَتَوَضأْ)) . رواه أبو داود.
العلاج الخامس: التذكُّر بأن كظمَ الغيظ مَهرُ الحور العين:
فعن معاذ بن أنس – رضي الله عنه -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((من كَظَمَ غَيظًا وهو قادرٌ على أنْ يُنْفِذَه، دَعَاهُ اللهُ – سبحانه وتعالى – على رؤوس الخلائق يوم القيامة، حتى يخَيِّرَه من الحُور العين ما شاءَ)) . رواه أَبو داود، والترمذي، وقال: “حديث حسن”.
فيا مَن تبحث عن حياةٍ بعيدة عن المشكلات، يا مَن تبحث عن الحياة السعيدة في الدنيا، يا مَن تبحث عن طريق الجنة، لا تَغْضَبْ، وَلَكَ الْجَنَّةُ، هذه وصية نبيِّنا – صلى الله عليه وسلم – فأين السائرون على منهج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ليكونوا من الفائزين؟