في كتاب رائع من كتب الدكتور مصطفى محمود، رحمه الله وجميع امواتنا، بعنوان “الإسلام ما هو؟”، كتب فيه متحدثا عن ما يحدث حاليا من امور في شهر رمضان المعظم، وعن الحكمة من صوم شهر رمضان، لنقرأ ما جاء فيه:
كان رمضان دائمًا شهر حروب وغزوات واستشهاد في سبيل الله.. كانت غزوة بدر في رمضان.. كما كانت حرب التتار في رمضان.. وحرب الصليبيين في رمضان.. وحرب إسرائيل في رمضان.
الصائم يفرِّغ نفسه للذكر وليس للتليفزيون.. ويخلو للصلاة وقيام الليل، وتلاوة القرآن وتدبر معانيه، وليس للرقص وترديد الأغاني المكشوفة.
هواة الجدل دائمًا يسألون.. كيف يخلق لنا الله فمًا وأسنانًا وبلعومًا ومعدة؛ لنأكل ثم يقول لنا: صوموا؟ كيف يخلق لنا الجمال والشهوة ثم يقول لنا: غضوا أبصاركم وتعففوا؟ هل هذا معقول؟
وأنا أقول لهم: بل هو المعقول الوحيد؛ فالله يعطيك الحصان لتركبه لا ليركبك.. لتقوده وتخضعه لا ليقودك هو ويخضعك.. وجسمك هو حصانك المخلوق لك لتركبه وتحكمه وتقوده وتلجمه وتستخدمه لغرضك، وليس العكس أن يستخدمك هو لغرضه، وأن يقودك هو لشهواته.
ومن هنا كان التحكُّم في الشهوة وقيادة الهوى ولجام المعدة هي علامة الإنسان، أنت إنسان فقط في اللحظة التي تقاوم فيها ما تحب، وتتحمل ما تكره. أما إذا كان كل همِّك هو الانقياد لجوعك وشهواتك، فأنت حيوان تحركك حزمة برسيم وتردعك عصا، وما لهذا خلقنا الله.
الله خلق لنا الشهوة لنتسلق عليها مستشرفين إلى شهوة أرفع.. نتحكم في الهياج الحيواني لشهوة الجسد ونصعد عليها لنكتفي بتلذذ العين بالجمال، ثم نعود فنتسلق على هذه الشهوة الثانية لنتلذذ بشهوة العقل إلى الثقافة والعلم والحكمة، ثم نعود فنتسلق إلى معراج أكبر لنستشرف الحقيقة ونسعى إليها ونموت في سبيلها.
معارج من الأشواق أدناها الشوق إلى الجسد الطيني، وأرفعها الشوق إلى الحقيقة والمثال.. وفي الذروة.. أعلى الأشواق لربِّ الكمالات جميعها الحق.
ولهذا سخّر الله لنا الطبيعة بقوانينها وثرواتها وكنوزها، وجعلها بفطرتها تطاوعنا وتخدمنا، فنحن لم نبذل مجهودًا كبيرًا لنجعل الجمل يحمل أثقالنا، أو الكلب يحرس ديارنا، أو الأنعام تنفعنا بفرائها ولحومها وجلودها، وإنما هكذا خُلقت مسخَّرة طائعة، وإنما العمل الذي خلقنا الله من أجله والتكليف الذي كلفنا به هو أن نركب هذه الدواب مهاجرين إلى الهدف.. إلى الله.. إليه وحده في كماله..
{يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ} [الانشقاق: 6].
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
والعبادة لا تكون إلا عن معرفة؛ فالحياة رحلة تعرُّف على الله، وسوف يؤدي بنا التعرف على الله وكمالاته إلى عبادته.. هكذا بالفطرة ودون مجهود، وهل نحتاج إلى مجهود لنعبد الجميلة حبًّا، إنما تتكفل بذلك الفطرة التي تجعلنا نذوب لحظة التطلع إلى وجهها؟! فما بالنا لحظة التعرُّف على جامع الكمالات الذي هو نبع الجمال كله! إننا نفنى حبًّا.
وما الصيام إلا التمرين الأول في هذه الرحلة، إنه التدريب على ركوب الفرس وترويضه وتطويعه بتحمُّل الجوع والمشقة، وهو درس الانضباط والأدب والطاعة.
د مصطفى محمود: الله في غِنى عن مثل هذا الصيام!
وهذه المعاني الراقية (الجميلة) ليس منها ما نعرف في (صيام اليوم) من فوازير ونكات وهزليات وصوانٍ ومكسرات وسهرات. وإنما الصائم يفرِّغ نفسه للذكر وليس للتليفزيون.. ويخلو للصلاة وقيام الليل، وتلاوة القرآن وتدبر معانيه، وليس للرقص وترديد الأغاني المكشوفة.
وقد كان رمضان دائمًا شهر حروب وغزوات واستشهاد في سبيل الله.. كانت غزوة بدر في رمضان.. كما كانت حرب التتار في رمضان.. وحرب الصليبيين في رمضان.. وحرب إسرائيل في رمضان.
ذلك هو الصيام الرفيع.. ليس تبطلاً، ولا نومًا بطول النهار، وسهرًا أمام التليفزيون بطول الليل، وليس قيامًا متكاسلاً في الصباح إلى العمل، وليس (نرفزة) وضيق صدر وتوترًا مع الناس.. فالله في غِنى عن مثل هذا الصيام، وهو يرده على صاحبه ولا يقبله، فلا ينال منه إلا الجوع والعطش. وإنما الصيام هو ركوب لدابة الجسد لتكدح إلى الله بالعمل الصالح، والقول الحسن، والعبادة الحقة. واسألْ نفسك عن حظك من كل هذا في رمضان، وستعلم إلى أيِّ حدٍّ أنت تباشر شعيرة الصيام.