اخبار ليل ونهار. القول الفصل في الصيام في شهر رجب !. كثيرا ما قد نسمع عن استحباب الصيام في شهر رجب، او العكس، نجد البعض يكره الصيام في شهر رجب، فأين الصواب؟.
فقد اختلف العلماء في صوم شهر رجب، فمنهم من استحبه لأمرين:
الأول: ما ورد من الترغيب العام في الصيام، وهذا بابه واسع، وأدلته كثيرة جدا.
الثاني: ما ورد من الترغيب الخاص في صيام الأشهر الحرم. ورجب منها بالاتفاق، وكذا ما ورد في فضل صيام رجب بخصوصه. وإلى استحباب صيام الأشهر الحرم عموما ورجب على وجه الخصوص ذهب الجمهور من العلماء، واستدلوا على ذلك بعدة أحاديث منها:
حديث ابي مجيبة الباهلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: “صم من الحُـرُم واترك، صم من الحرم واترك” والحديث رواه أحمد وأبو داود، واللفظ له، ولفظ أحمد: “فمن الحرم وأفطر” وأخرج الحديث أيضا البيهقي في السنن، وفي الشعب، وابن سعد.
ومنها: حديث أسامة بن زيد قال: قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم شهراً من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: “ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم” رواه النسائي وأحمد.
قال العلامة الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار 4/293: ظاهر قوله في حديث أسامة إن شعبان شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان أنه يستحب صوم رجب، لأن الظاهر أن المراد أنهم يغفلون عن تعظيم شعبان بالصوم، كما يعظمون رمضان ورجبا به، ويحتمل أن المراد غفلتهم عن تعظيم شعبان بصومه، كما يعظمون رجبا بنحر النحائر فيه، فإنه كان يعظم بذلك عند الجاهلية، وينحرون فيه العتيرة، كما ثبت في الحديث، والظاهر الأول. والمراد بالناس الصحابة، فإن الشارع قد كان إذ ذاك محا آثار الجاهلية، ولكن غايته التقرير لهم على صومه، وهو لا يفيد زيادة على الجواز، وقد ورد ما يدل على مشروعية صومه على العموم والخصوص.
أما العموم، فالأحاديث الواردة في الترغيب في صوم الأشهر الحرم، وهو منها بالإجماع، وكذلك الأحاديث الواردة في مشروعية مطلق الصوم، ثم ذكر أحاديث في فضل صيام رجب أخرجها الطبراني والبيهقي وأبو نعيم وابن عساكر ثم قال: (وحكى ابن السبكي عن محمد بن منصور السمعاني أنه قال لم يرد في استحباب صوم رجب على الخصوص سنة ثابتة، والأحاديث التي تروى فيه واهية لا يفرح بها عالم، وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه أن عمر كان يضرب أكف الناس في رجب حتى يضعوها في الجفان، ويقول: كلوا، فإنما هو شهر كان تعظمه الجاهلية.
وأخرج أيضا من حديث زيد بن أسلم قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم رجب؟ فقال: “أين أنتم من شعبان” وأخرج عن ابن عمر رضي الله عنهما ما يدل على أنه كان يكره صوم رجب. وقال: ولا يخفاك أن الخصوصات إذا لم تنتهض للدلالة على استحباب صومها، انتهضت العمومات، ولم يرد ما يدل على الكراهة حتى يكون مخصصاً لها. وأما حديث ابن ماجه بلفظ: “إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام رجب” ففيه ضعيفان: زيد بن عبد الحميد، وداود بن عطاء، ا.هـ
وقد شنع العز بن عبد السلام على من نهى الناس عن صيام رجب، كما نقل ذلك عنه ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الفقهية الكبرى.
ومن أهل العلم من كره صوم شهر رجب، ومن أولئك الحنابلة، واستدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما، ونهي عمر الناس عن صيامه، وقد سبق ذكر ذلك فيما نقلناه عن الإمام الشوكاني.
قال الإمام ابن قدامة في المغني: (ويكره إفراد رجب بالصوم)، أما الأشهر الحرم، فوافق الحنابلة الجمهور في استحباب صومها، وتزول كراهة إفراد صيام رجب عند الحنابلة بفطر يوم فيه.
قال المرداوي في الإنصاف:245/3: (ويكره إفراد رجب بالصوم هذا المذهب، وعليه الأصحاب، وقطع به كثير منهم، وهو من مفردات المذهب)، وحكى الشيخ تقي الدين في تحريم إفراده وجهين قال في الفروع: (ولعله أخذه من كراهة أحمد)، ثم قال: (مفهوم كلام المصنف أنه لا يكره إفراد غير رجب بالصوم، وهو صحيح لا نزاع فيه، قال المجد: لا نعلم فيه خلافا)، وقال: (تزول الكراهة بالفطر من رجب ولو يوما، أو بصوم شهر آخر من السنة قال المجد: وإن لم يله).
ومن خلال هذه النقول يتضح لنا جليا أن المسألة خلافية بين العلماء، ولا يجوز أن تكون من مسائل النزاع والشقاق بين المسلمين، بل من قال بقول الجمهور من العلماء لم يثرب عليه، ومن قال بقول الحنابلة لم يثرب عليه.
وأما صيام بعض رجب، فمتفق على استحبابه عند أهل المذاهب الأربعة لما سبق، وليس بدعة.
ثم إن الراجح من الخلاف المتقدم مذهب الجمهور لا مذهب الحنابلة.
وأما العمرة في رجب، فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك، وقد استحب بعض السلف ذلك، فكانوا يعتمرون في رجب، أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عن سعيد بن المسيب قال: كانت عائشة رضي الله عنها تعتمر في آخر ذي الحجة، وتعتمر من المدينة في رجب تهل من ذي الحليفة .
وأخرج بسنده عن يعلى بن الحارث قال: سمعنا أبا إسحاق وسئل عن عمرة رمضان، فقال: أدركت أصحاب عبد الله لا يعدلون بعمرة رجب، ثم يستقبلون الحج.
وأخرج بسنده عن عبد الرحمن بن حاطب قال: اعتمرت مع عمر وعثمان في رجب.
خلاصة الاقوال في صيام شهر رجب:
شهر رجب واحد من شهور السنة ، وصيام النافلة في جميع شهور السنة مشروع إلا في رمضان والعيدين وأيام التشريق، ويوم الجمعة، فأما شهر رمضان فلأنه ليس محلا للتطوع، وأما غيره فقد صح النهي عن صيام النافلة فيه.
أما شهر رجب فلم يصح في فضل صيامه شيء فهو كغيره من سائر الشهور .
ومع أن صيام النافلة مشروع فيما عدا هذه المواضع إلا أنه يكون في بعضها أوكد من بعض، وتتأكد المشروعية في بعض هذه الأيام حتى يصير الصيام سنة وهديا ثابتا عن رسول اللهصلى الله عليه وسلم.
من ذلك صيام الاثنين والخميس، فصيام أثانين وأخمسة السنة كلها – ومنها شهر رجب- سنة ثابتة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وإن كان صيام الاثنين أثبت من يوم الخميس ما لم يقصد الصائم بصيامه إياها تعظيم شهر رجب.
فعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم الاثنين فقال: (فيه ولدتُ ، وفيه أُنزل عليَّ) رواه مسلم.
وعن عائشة رضي الله عنه قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرَّى صوم الاثنين والخميس) رواه الترمذي، وغيره، وصححه الشيخ الألباني.
ومن ذلك صيام الأيام البيض من كل شهر، فعن أبي أبا ذر رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صمتَ شيئا من الشهر فصم ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة). رواه الترمذي وغيره، وصححه الشيخ الألباني.
بل أصل صيام ثلاثة أيام من كل شهر سنة ثابتة سواء أكانت من أول الشهر أو من وسطه، أو من آخره، فعن معاذة العدوية أنها سألت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ؟ قالت: نعم. فقلت لها: من أي أيام الشهر كان يصوم؟ قالت: لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم. رواه مسلم.
ومن ذلك صيام يوم، وإفطار يوم، ففي صحيحي البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام وأحب الصيام إلى الله صيام داود وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ويصوم يوما ويفطر يوما).
فصيام هذه المواضع سُنةٌ من كل شهرٍ، سواء في ذلك رجب وغيره إلا في المواضع التي ذكرنا النهي عن التطوع فيها.
وسواء في ذلك الصيام لمن كانت له في ذلك عادة أو لمن لم تكن له عادة، أو تطوع بهذا الصيام بنية تدريب نفسه على الصيام بين يدي شهر رمضان.
ولم يثبت لشهر رجب من الخصوصيات غير ما ذكرنا. وأما ما ابتدعه الناس في هذا الشهر من البدع المنكرة كصلاة الرغائب، فلا يجوز فعله، ولا مجاراة الناس فيه. والله تعالى اعلى وأعلم.