اخبار ليل ونهار. من الشخصيات الشهيرة التي كثر حولها الجدال والخلاف، بسبب طبيعة شخصيته الغريبة، انه الحجاج بن يوسف الثقفي
اختلف المؤرخون القدماء والمحدثون في شخصية الحجاج بن يوسف بين مدح وذم، وتأييد لسياسته ومعارضة لها، ولكن الحكم عليه دون دراسة عصره المشحون بالفتن والقلاقل ولجوء خصوم الدولة إلى السيف في التعبير عن معارضتهم لسياسته أمر محفوف بالمزالق، ويؤدي إلى نتيجة غير موضوعية بعيدة عن الأمانة والنزاهة.
واحتل الحجاج بن يوسف الثقفي مكانة متميزة بين أعلام الإسلام، ويندر أن تقرأ كتابًا في التاريخ أو الأدب ليس فيه ذكر للحجاج الذي خرج من سواد الناس إلى الصدارة بين الرجال وصانعي التاريخ بملكاته الفردية ومواهبه الفذة في القيادة والإدارة.
وعلى قدر شهرة الحجاج كانت شهرة ما نُسب إليه من مظالم؛ حتى عده كثير من المؤرخين صورة مجسمة للظلم، ومثالا بالغا للطغيان، وأصبح ذكر اسمه يستدعي في الحال معاني الظلم والاستبداد، وضاعت أعمال الحجاج الجليلة بين ركام الروايات التي تروي مفاسده وتعطشه للدماء، وإسرافه في انتهاكها، وأضافت بعض الأدبيات التاريخية إلى حياته ما لم يحدث حتى صار شخصية أسطورية بعيدة كل البعد عن الحقيقة والواقع، وقليل من المؤرخين من أنصف الحجاج، ورد له ما يستحق من تقدير.
المولد والنشأة
هو أبو محمدٍ الحجاج بن يوسف بن أبي عقيلٍ بن الحكم الثقفي، وقد كان اسمه كليب، ثم أسمى نفسه الحجاج، أما أمه فهي الفارعة بنت همامٍ بن عروةٍ بن مسعود الثقفي.
في الطائف كان مولد الحجاج بن يوسف الثقفي في سنة (41 هـ = 661م)، ونشأ بين أسرة كريمة من بيوت ثقيف، وكان أبوه رجلا تقيًّا على جانب من العلم والفضل، وقضى معظم حياته في الطائف، يعلم أبناءها القرآن الكريم دون أن يتخذ ذلك حرفة أو يأخذ عليه أجرا.
حفظ الحجاج القرآن على يد أبيه ثم تردد على حلقات أئمة العلم من الصحابة والتابعين، مثل: عبد الله بن عباس، وأنس بن مالك، وسعيد بن المسيب، وغيرهم، ثم اشتغل وهو في بداية حياته بتعليم الصبيان، شأنه في ذلك شأن أبيه.
وكان لنشأة الحجاج في الطائف أثر بالغ في فصاحته؛ حيث كان على اتصال بقبيلة هذيل أفصح العرب، فشب خطيبا، حتى قال عنه أبو عمرو بن العلاء: “ما رأيت أفصح من الحسن البصري، ومن الحجاج”، وتشهد خطبه بمقدرة فائقة في البلاغة والبيان.
نبذة عن حياة الحجاج وولايته
بدأ الحجاج طموحه السياسي من بلاد الشام، على الرغم من بعدها عن مدينة الطائف، وعندما وصل الشام التحق بشرطة إمارتها التي كانت تعاني من مشاكل عديدةٍ؛ أهمّها سوء التنظيم، وعدم الالتزام بالنظام، وقلة عدد المجندين، مما أدى به إلى إبداء التزامه، وإظهار قوته وعزيمته، وسرعان ما بدأ يُنبّه أولياء الأمر إلى الأخطاء الواقعة. وقد رأى فيه قائدُ الشرطة روح بن زنباغ صفات القائد الفذّ فمنحه مكانةً مرموقةً، وعمل على ترقيته ليصبح فوق أصحابه، وقد كان الحجاج شديداً يُعاقب مرؤوسيه لأدنى خللٍ أو خطأ، وانتهى الأمر بطاعتهم لأولياء الأمر طاعةً مطلقة. ثم قدم قائدُ الشرطة الحجاجَ إلى الخليفة عبد الملك بن مروان، فما كان من الحجاج إلّا أن حمى الدولة الأموية من السقوط وأسّسها من جديد. وقد سيّر عبد الملك بن مروان الجيوش لمحاربة الخارجين عن الدولة بقيادة الحجاج الذي كره ولاية الزبير وهبّ لمحاربته، وعندما علم الحجاج بعدم رغبة أهل الشام بالخروج في الجيش أمهلهم ثلاثة أيامٍ فقط فمن لم يخرج يقتله، ويحرق بيته، ويأخذ ماله، وبالفعل بدأ الحجاج بالسير بين البيوت حيث قتل أحد المتخلفين عن الجيش، فخرج معه الأغلبية بالإجبار.
وفي عام 73هـ أراد عبد الملك بن مروان أن يتخلص من عبد الله بن الزبير، وعندها جهز جيشاً عظيماً بقيادة الحجاج لمحاربته في مكة، وسار الحجاج بعد أن اكتمل جيشة إلى مكة وحاصر عبدالله بن الزبير هناك، وبدأت الحرب بينهما والتي دامت عدة أشهرٍ، هُزم فيها ابن الزبير. وفي عام 75هـ عزل عبد الملك بن مروان الحجاج عن الحجاز وولّاه على العراق، واستمرّت ولايته على العراق لمدة عشرين عاماً، وفي العراق خطب الحجاج خطبته الشهيرة، والتي توعّد وهدّد فيها أهل العراق في حال تخلّف أحد منهم وأعرض عن أوامر بني أمية، وفيها قال جملته الشهيرة: (إنني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى). وقد أبدت هذه الخطبة شدّة الحجاج وسياسته الحازمة، فما كان من أهل العراق إلّا أن خضعوا لبني أمية وقائدهم الحجاج بن يوسف الثقفي.
بعض إنجازات الحجاج بن يوسف الثقفي
في الفترة التي قضاها الحجاج في ولايته على العراق قام بجهود إصلاحية عظيمة، ولم تشغله الفترة الأولى من ولايته عن القيام بها، وشملت هذه الإصلاحات النواحي الاجتماعية والصحية والإدارية وغيرها؛ فأمر بعدم النوح على الموتى في البيوت، وبقتل الكلاب الضالة، ومنع التبول أو التغوط في الأماكن العامة، ومنع بيع الخمور، وأمر بإهراق ما يوجد منها، وعندما قدم إلى العراق لم يكن لأنهاره جسور فأمر ببنائها، وأنشأ عدة صهاريج بالقرب من البصرة لتخزين مياه الأمطار وتجميعها لتوفير مياه الشرب لأهل المواسم والقوافل، وكان يأمر بحفر الآبار في المناطق المقطوعة لتوفير مياه الشرب للمسافرين.
ومن أعماله الكبيرة بناء مدينة واسط بين الكوفة والبصرة، واختار لها مكانا مناسبا، وشرع في بنائها سنة (83هـ = 702م)، واستغرق بناؤها ثلاث سنوات، واتخذها مقرا لحكمه.
وكان الحجاج يدقق في اختيار ولاته وعماله، ويختارهم من ذوي القدرة والكفاءة، ويراقب أعمالهم، ويمنع تجاوزاتهم على الناس، وقد أسفرت سياسته الحازمة عن إقرار الأمن الداخلي والضرب على أيدي اللصوص وقطاع الطرق.
ويذكر التاريخ للحجاج أنه ساعد في تعريب الدواوين، وفي الإصلاح النقدي للعملة، وضبط معيارها، وإصلاح حال الزراعة في العراق بحفر الأنهار والقنوات، وإحياء الأرض الزراعية، واهتم بالفلاحين، وأقرضهم، ووفر لهم الحيوانات التي تقوم بمهمة الحرث؛ وذلك ليعينهم على الاستمرار في الزراعة.
نقط المصحف
ومن أجلِّ الأعمال التي تنسب إلى الحجاج اهتمامه بنقط حروف المصحف وإعجامه بوضع علامات الإعراب على كلماته، وذلك بعد أن انتشر التصحيف؛ فقام “نصر بن عاصم” بهذه المهمة العظيمة، ونُسب إليه تجزئة القرآن، ووضع إشارات تدل على نصف القرآن وثلثه وربعه وخمسه، ورغّب في أن يعتمد الناس على قراءة واحدة، وأخذ الناس بقراءة عثمان بن عفان، وترك غيرها من القراءات، وكتب مصاحف عديدة موحدة وبعث بها إلى الأمصار.
الفتوحات الإسلامية
تطلع الحجاج بعد أن قطع دابر الفتنة، وأحل الأمن والسلام إلى استئناف حركة الفتوحات الإسلامية التي توقفت بسبب الفتن والثورات التي غلت يد الدولة، وكان يأمل في أن يقوم الجيش الذي بعثه تحت قيادة ابن الأشعث بهذه المهمة، وكان جيشا عظيما أنفق في إعداده وتجهيزه أموالا طائلة حتى أُطلق عليه جيش الطواويس، لكنه نكص على عقبيه وأعلن الثورة، واحتاج الحجاج إلى سنوات ثلاثة حتى أخمد هذه الفتنة العمياء.
ثم عاود الحجاج سياسة الفتح، وأرسل الجيوش المتتابعة، واختار لها القادة الأكفاء، مثل قتيبة بن مسلم الباهلي، الذي ولاه الحجاج خراسان سنة (85هـ = 704م)، وعهد إليه بمواصلة الفتح وحركة الجهاد؛ فأبلى بلاء حسنا، ونجح في فتح العديد من النواحي والممالك والمدن الحصينة، مثل: بلخ، وبيكند، وبخارى، وشومان، وكش، والطالقان، وخوارزم، وكاشان، وفرغانه، والشاس، وكاشغر الواقعة على حدود الصين المتاخمة لإقليم ما وراء النهر وانتشر الإسلام في هذه المناطق وأصبح كثير من مدنها مراكز هامة للحضارة الإسلامية مثل بخارى وسمرقند.
وبعث الحجاج بابن عمه محمد بن القاسم الثقفي لفتح بلاد السند، وكان شابا صغير السن لا يتجاوز العشرين من عمره، ولكنه كان قائدا عظيما موفور القدرة، نجح خلال فترة قصيرة لا تزيد عن خمس سنوات (89-95هـ = 707-713م) في أن يفتح مدن وادي السند، وكتب إلى الحجاج يستأذنه في فتح قنوج أعظم إمارات الهند التي كانت تمتد بين السند والبنغال فأجابه إلى طلبه وشجعه على المضي، وكتب إليه أن “سر فأنت أمير ما افتتحته”، وكتب إلى قتيبة بن مسلم عامله على خراسان يقول له: “أيكما سبق إلى الصين فهو عامل عليها”.
وكان الحجاج يتابع سير حملات قادته يوفر لها ما تحتاجه من مؤن وإمدادات، ولم يبخل على قادتها بالنصح والإرشاد؛ حتى حققت هذه النتائج العظيمة ووصلت رايات الإسلام إلى حدود الصين والهند.
نهاية الحجاج بن يوسف الثقفي
مرض الحجاج في نهاية حياته مرضاً شديداً وغريباً، وقد ذكر المؤرخون اسم هذا المرض بالأكلة، والذي أصاب بطنه، وعندما دُعي الطبيب لينظر إليه أخذ لحماً وعلقه في خيط، ثم وضعه في حلقه لمدة ساعةٍ، وعندما أخرجه وجده وقد علق به الكثير من الدود. كما سلط الله على الحجّاج البرد الشديد المعروف باسم الزمهرير، حتى أن النار كانت تمس جلده من الكوانين (المواقد) المشتعلة حوله ولم يكن يشعر بالحرارة أبداً، وعندما شكى الحجاج ما يحدث له إلى الحسن البصري كان رده عليه أنه قد نهاه عن التعرض للصالحين إلاّ أنه أعرض وأبى، أما رد الحجاج على الحسن البصري فكان أنه لا يريد منه دعاء الله بالتفريج عنه، وإنما أن يدعو الله أن يعجّل في موته ولا يطيل عذابه.
وقد بقي الحجاج مريضاً لمدة خمسة عشر يوماً، وتوفي سنة 95هـ في شهر رمضان في مدينة واسط ودُفن بها، ويُقال في بعض المصادر أنه توفي في شهر شوال، عن عمرٍ يُناهز أربعاً وخمسين عاماً. وكان الحجاج يشعر بقرب موته، كما كان يستشعر شماتة الناس واعتبارهم بخلوده في النار، حيث كان ينشد في آخر أيامه أبياتاً من الشعر تتحدث عن المغفرة والعتق من النيران وهي لعبيد بن سفيان العكلي. وقد بعث إلى الوليد بن عبد الملك كتاباً يُخبره فيه بمرضه، وورد عن ابن أبي الدنيا أن عبد الله التيمي قال إنه عندما مات الحجاج لم يعلم أحدٌ بذلك حتى جاءت جاريةٌ تبكي، وقالت: (ألا إن مُطعم الطعام، ومُيتم الأيتام، ومُرمل النساء، ومُفلق الهام، وسيد أهل الشام قد مات).