كلما ازداد انتشار فيروس كورونا، كلما ظهرت جوانب جديدة مرتبطة به يعرفها العلم مسبقاً، خاصة فيما يتعلق بالأعراض الجانبية طويلة المدى، وهو المصطلح المستخدم لوصف الأعراض التي تتبع العدوى، والتي قد تستمر لعدة أشهر بعد الإصابة بالفيروس، وقد شملت؛ فقدان حاسة التذوق والشم والإرهاق وضيق التنفس، أما الآن فقد أضيف “الباروزميا”.
تتغير حاسة الشم والتذوق بعد الإصابة بفيروس كورونا، فقد لا تعود نكهة الأطعمة أو رائحتها كما كانت سابقاً، فقد يصبح طعم بعض المشروبات أو رائحتها مثل البنزين، أو رائحة شيء فاسد، بشكل يجعل الشخص ينفر من تناول الشيء والابتعاد عنه، وقد يصل ذلك حتى إلى شرب الماء.
كما أن الروائح الشهية السابقة مثل الثوم والبصل المطبوخ أصبحت الآن لا تطاق، ورائحة اللحوم كأنها متعفنة، أما معجون الأسنان بالنعناع فيصبح غير مرغوب فيه لدرجة قد يضطر الشخص إلى تغييره إلى نكهة أخرى، وتصبح رائحة القهوة الغنية كرائحة البنزين النفاذة.
تسمى حالة تغير الروائح أو شم رائحة غير موجودة أو غير حقيقية فانتوسميا (بالإنجليزية: Phantosmia). ومن الأمثلة أيضاً على هذه التغيرات أن تصبح رائحة مواد التنظيف كريهة، وتصبح رائحة الدخان مقززة.
ماذا تعنى كورونا طويلة الامد؟
تتنوع أعراض «كوفيد طويل الأمد» ما بين شعور عام بالإجهاد والإرهاق، واستمرار فقدان حاستي الشم والتذوق، أو هلاوس حسية لنفس الحاستين، مثل أن يشم المتعافي رائحة واحدة لكل الأشياء من حوله طوال الوقت. وقد تمتد الأعراض لأمراض مزمنة مثل السكر والحساسية، بالإضافة إلى بعض أمراض القلب والرئتين، بحسب أطباء متخصصين تحدثوا إلى «مدى مصر»، والذين أوضحوا أن «كورونا طويل الأمد» لا يقتصر على بعض الأعراض الجسدية، وإنما يمتد لبعض الأعراض النفسية أيضًا، مثل الاكتئاب وفقدان الذاكرة المؤقت وحالات الهياج والعصبية المتبوعة بفقدان ذاكرة مؤقت.
وقد وصف جراح الأذن والأنف والحنجرة البروفيسور نيرمال كومار، في مقابلة مع شبكة CNN، أعراض الباروزميا بأنها “غريبة جداً ونادرة جداً”.
كومار كان أول عامل طبي حدد فقدان حاسة الشم كأحد أعراض الفيروس، والتي تجعل المرضى غير قادرين على شم أي شيء، والمعروفة باسم “أنوزميا”.
وخلال قيامه بفحص المرضى ممكن عانوا بالفعل من فقدان الشم “أنزوميا”، وجد أن بعضهم يعاني من حالة هلوسة شمية “الباروزميا”، والتي لسوء الحظ تشوه الروائح لتصبح “نتنة”، ما قد يؤثر على نوعية الحياة والرفاهية العقلية.
وذكرت صحيفة “ذا إندبندنت” البريطانية، نقلاً عن الوكالة البريطانية، أن من بين المصابين بهذا العرض هم العاملين في المجال الصحي، “لقد فحصت هذا الصباح مريضين يعملان في المجال الصحي، أحدهما يشم رائحة حريق بشكل مستمر، رغم عدم وجود أي حرائق، وآخر تغلبت رائحة السمك على الروائح الأخرى، دون وجود أي سمك في محيطه”، مشيراً إلى أن هذا قد يعود إلى تعرضهم الدائم للفيروس.
وقال الطبيب إن هذا الفيروس له صلة بالأعصاب في الرأس، وعلى وجه الخصوص، بالعصب الذي يتحكم في حاسة الشم. ولكن من المحتمل أن يؤثر على الأعصاب الأخرى أيضاً ويؤثر، كما يرجح الأطباء، على الناقلات العصبية التي ترسل رسائل إلى الدماغ، مضيفاً أن البعض أبلغ عن هلوسات واضطرابات في النوم، وتغيرات في السمع.
وذكر الشاب دانييل سافيسكي، والذي يعاني من “البارزوميا” منذ تعافيه، في لقاء مع “ذا إندبندنت”، أن الأشياء ذات الرائحة النفاذة مثل الصناديق لديها الآن رائحة مشتعلة تشبه الكبريت، أو رائحة “مثل الخبز المحمص”، وأضاف: “لقد قلل هذا من استمتاعي بالطعام، ومن المحبط عدم القدرة على شم بعض الأطعمة”.
يتجه بعض مرضى فيروس كورنا المتعافين إلى “العلاج بالرائحة” لمحاولة استعادة حاسة الشم لديهم، والتي يقول كومار إن لديها بعض التقارير المبكرة الواعدة بشأن فعاليتها.
يقول خالد عز، الطبيب الاستشاري بالمركز القومي للصدر والحساسية، إن «كوفيد طويل الأمد» يتشابه مع كورونا في أن كليهما لا يوجد له قاعدة أو ثوابت يمكن الاستناد إليها في الإصابة أو التشخيص، معتبرًا أن الوقت ما زال مبكرًا أمام الدراسات العلمية لاستكشاف المرض وآثاره الجانبية.
تعتمد أعراض «كورونا طويل الأمد»، حسبما أشار عز، على كمية الفيروس التي تعرض لها الشخص وفترة التعرض للعدوى ومناعة الجسم ومدة الإصابة بكورونا وأعراضها وسن المريض، بالإضافة إلى وجود عوامل خطورة من عدمه، بمعنى وجود إصابة بأمراض مزمنة مثل الضغط والسكر، وكذلك الأمراض الصدرية المزمنة. كلها عوامل تحدد احتمال تعرض المتعافي لـ«كوفيد طويل الأمد» من عدمه، بحسب عز، مؤكدًا أنه حتى قدرات المتعافين على التعايش أو التعامل مع نفس أعراض «كورونا طويل الأمد» تختلف من حالة لأخرى.
قصص حقيقية من معاناة المصابين بعد التعافي من كورونا
خلال الشهور الأخيرة، تغيرت تفاصيل رحلة عبير حسين اليومية إلى العمل. لم تعد تهتم إلى جوار من ستجلس في المواصلات بعد أن كانت تنتقي الكراسي المعزولة أو الأخيرة والأمامية، وتتجنب الكراسي الوسطى في الأتوبيسات والميكروباصات تجنبًا للروائح الكريهة. فقط حرصت على وضع كميات هائلة من البرفان قبل توجهها إلى العمل صباح كل يوم. منذ أن فقدت حاسة شمها، «مش ضامنة أنا ريحتي إيه ولا ريحة هدومي»، تقول. ولهذا تستخدم البرفان كأداة للاطمئنان.
فقدت عبير، محامية، 43 سنة، حاستي الشم والتذوق بعد إصابتها بفيروس كورونا في يونيو الماضي. كانت أعراض الفيروس طفيفة: حمى بسطية، وفقدان حاستي الشم والتذوق، وتكسير في الجسم. استعادت عافيتها سريعًا، لكنها اكتشفت مأساة جديدة: «الشم والتذوق مش مظبوطين، أشم رائحة عطرية طول الوقت واستطعم الأكل بنفس الريحة حتى الآن، رحت لدكتور أنف وأذن اداني علاج وقالي على تمارين معينة بس برضو لسه العَرَض ده مكمل من 9 شهور».
تغير كل شيء في حياتها. لم تعد عبير تشارك في اختيارات وجبة غذائها بالعمل فكل الأكلات «زي بعض»، كما تقول. محاولاتها المستمرة في التعايش مع فقدان حاستي الشم والتذوق تجعلها دائمة التظاهر بأن كل شيء على ما يرام. حين يُثني أصدقاء العمل على طعام الغذاء أو مشروبات «بوفيه الشغل» تؤمّن على كلامهم.
عبير واحدة من مئات الآلاف يختبرون أعراض ما يُسمى بـ«متلازمة ما بعد الاصابة بكورونا» أو «كوفيد طويل الأمد long covid». في مثل هذا التوقيت قبل عام، بدأ وباء كورونا -كان مستجدًا وقتها- رحلة انتشاره بين المصريين. وقتها، لم يكن يشغل البال سوى إتمام رحلة العلاج والتعافي من الإصابة، لكن أحدًا لم يكن يعرف أن التعافي ليس نهاية الرحلة.
تتمحور تفاصيل المعاناة اليومية لعبير حول هذا. فقدت كل شيء يربطها بحياتها كما تعرفها. تستيقظ كل صباح على شعور يداهمها يمزج بين الفزع والغربة، فأنفها لا يلتقط رائحة أغطيتها ولا رائحة حجرتها. تشعر كأنها تستيقظ في مكان غريب خارج منزلها. تنطلق إلى الحمام، تستخدم صابونها المعتاد برائحة الياسمين، والذي طالما كان سببًا في انتعاشاتها الصباحية، تستغرقها روائح منظفاتها أثناء الاستحمام فتقضي فترة أطول في الاستمتاع بالروائح المنعشة. لكن، فقدانها للشم يحول الاستحمام لمجرد إجراء روتيني لا متعة فيه ولا انتعاش. تمر على المطبخ لتشرب مشروبها الصباحي الذي أعدته والدتها ليكون شاي باللبن، بينما تشربه عبير وكأنه «مية سخنه بالسكر»، بحسب تعبيرها.
في أحد الأيام، في طريق العودة للمنزل، فكرت عبير في السفر إلى قرية الياسمين بأسوان، كما اعتادت في مثل هذا التوقيت من كل عام، وهي القرية المجاورة لمسقط رأسها. أوشكت على سحب تليفونها من حقيبتها لترى حجوزات ومواعيد قطارات أسوان، لكنها تراجعت عن الحجز والقرار. تلوم نفسها، «هتروحي تعملي إيه في بلد الياسمين وانتِ مبتشميش». الشيء الوحيد المريح في فقدانها الشم والتذوق يكون في مارس لأن روائح الربيع تحمل لها ذكريات أليمة عن فقد زوجها، مما يدخلها في نوبات اكتئاب موسمية. «أخيرًا لقيت فائدة من فقدان حاسة الشم»، تقول.
تحاول التخفيف عن وقائع يومها عديم الرائحة والطعم بشراء الشوكولاتة عقب نزولها من المواصلات، وسرعان ما تصاب بالإحباط من جديد فهي لن تستمتع بطعم الشيكولاتة لأنها لا تتذوق. تهم بالصعود لمنزلها الذي تعيش فيه مع ابنتها ووالديها وأخواتها. تقف في مدخل المنزل محاولة استطلاع غداء اليوم من الروائح التي تنبعث من مطبخ العائلة، ولكنها تفشل، ويصبح المنزل محاطًا بالغموض. «كنت أقدر أعرف ماما عاملة أكل إيه، أو عندنا ضيوف ولا لأ بمجرد ما ادخل البيت، دلوقت لا، الوضع مختلف، بدخل البيت وأنا حاسة بالغموض شوية».
اختلفت معالم كل شيء بالنسبة لعبير عن قبل إصابتها بفيروس كورونا. أصبحت أكثر اعتمادًا على الآخرين في قرارات الأكل والشرب. تستشير عبير أهلها في أي طعام غير طازج قبل أن تأكله. على الأقل، لا تضطر للقلق بما قد يهدد أمنها الشخصي بسبب فقدانها حاستي الشم والتذوق، حيث تعتمد على عائلة كاملة في تنبيهها حال وجود روائح حرق أكل أثناء الطبخ، أو لفت نظرها لطعم طعام فاسد أو منتهي الصلاحية.
تغيرت بعض قراراتها الشرائية فيما يتعلق بتفصيلاتها للسناكس والتسالي. لم تعد تشتري اللب ولا الشيكولاته، تشتهي أكلات بعينها تشتريها وتتظاهر أنها سعيدة بقرارها الشرائي، بالرغم من عدم الشعور بأي إحساس. تشتاق إلى البحر تزور الإسكندرية، ولكن «فرحة شوفة البحر ناقصة، لأني مش شامه ريحته»، تقول عبير.
تسعة شهور كاملة تحاول عبير فيها التظاهر بأن كل شيء على مايرام، ولكن حقيقة الأمر أن عبير صعبان عليها نفسها جدًا، كما تقول.
مهاجمة الفيروس لنقاط ضعف ضحاياه تبدو مبررًا علميًا لما حدث لـ«راوية عبدالله»، 58 سنة، والعاملة بإحدى المستشفيات، والتي أصيبت بتلف بالعصب السابع عقب التعافي من الفيروس الذي ظهرت أعراضه لديها يونيو الماضي ودخلت المستشفى في حالة متأخرة.
تحكي راوية: «اتحجزت 12 يوم في مستشفى الصدر، وأنا مريضة سكر، وفي الوقت اللي بدأت أتحسن فيه وأعرف آخد نفسي من غير أكسجين صحيت في يوم مش حاسة بالناحية الشمال من وشي، لا عيني شايفه بيها ولا سامعة بودني، ومناخيري وبقي ساقطين، ومش عارفة آكل على سناني بعد ما الدكاترة كشفوا عليا قالوا لي كورونا رفعت لك السكر جامد، والسكر جابلك العصب السابع، ومن وقتها وأنا بلف على الدكاترة عشان أعالج العصب السابع عشان أرجع زي الأول في الشغل وفي البيت، وعشان أسيب المسكنات، نفسي أسيبها، فمش عارفة هرجع زي الأول ولا خلاص».
أعراض متلازمة ما بعد الإصابة بكورونا
يقول حسين مغاوري، أخصائي الحالات الحرجة بمستشفى صدر المنصورة، إن أعراض متلازمة ما بعد الإصابة بكورونا تتناسب طرديًا مع أعراض الإصابة بفيروس كورونا نفسه. إذا كانت الإصابة بكورونا بسيطة أو متوسطة، تكون أعراض المتلازمة أيضًا بسيطة أو متوسطة. أما إذا كانت الأعراض شديدة وتسببت في التهاب رئوي فتكون أعراض المتلازمة شديدة أيضًا، حيث أن كورونا في حالته الشديدة يسبب تليفات في الرئة وتجلطات في أماكن مختلفة من الجسم (الرئة، القلب، وغيرها) وتستمر هذه الأعراض حتى مع تعافي المصاب من كورونا، حيث تحتاج التليفات لثلاثة أشهر للتعافي. أما الجلطات، يحتاج علاجها إلى نحو ستة شهور وقد لا يتم التعافي من هذه التبعات وبالتالي يحتاج صاحب التليفات الرئوية المستمرة لأكسجين خارجي مدى الحياة. أما المتعافي من التليفات فيصبح ذا رئة حساسة لأبعد الحدود، وهو ما يجعلها عرضة لنوبات التهاب رئوي متكررة، أما أصحاب الجلطات، يكونون أيضًا عرضة لها باستمرار، وخاصة في كبار السن.
يوضح مغاوري أن إصابات كورونا البسيطة، والتي لم تصل لدرجة الالتهاب الرئوي، غالبًا ما تكون أعراض «كورونا طويل الأمد» بها وقتية وبسيطة أيضًا، وتتمثل في فقدان حاستي الشم والتذوق، وربما هلوسة في الجهاز الحسي، كأن يعاني المريض من هلاوس تذوقية وشمية، بمعنى أنه يشم رائحة واحدة غير موجودة باستمرار. «تابعت بعض حالات الهلوسة الحسية من مصابي المتلازمة فمنهم من يشم رائحة حريق باستمرار وآخر يشم روائح كريهة طول الوقت»، يقول مغاوري.
كيفية علاج فقدان حاسة الشم
يقول الاطباء أن التدريب على الرائحة الذي يوصى به للأشخاص الذين يعانون من فقدان حاسة الشم قد يساهم في استعادة حاسة الشم، وعادةً ما يتضمن شم روائح مختلفة، مثل الزيوت الأساسية مرتين يومياً على الأقل لمدة 10 – 15 ثانية في المرة الواحدة على مدار أسابيع، وتساعد الروائح القوية مثل الورد، والليمون، والقرنفل، والأوكالبتوس في استعادة حاسة الشم أيضاً..
وقد يساهم وضع كرة قطنية مبللة في الأنف، أي إغلاق فتحتي الأنف عند تناول الطعام للتقليل من الرائحة أو النكهة المثيرة للاشمئزاز وتقلل الشعور بالغثيان.
كما يمكن إيجاد بدائل للأطعمة المسببة للنفور منها، فمثلاً يمكن استبدال اللحوم بمنتجات الألبان والبيض، أو البقوليات.
وفي النهاية نرجو من الله تعالى الشفاء والعافية لنا جميعا.